وقد سولت لي نفسي- وكثيرا ما تفعل- أن أسأل: ماذا لو لم نجد ماء أو كهرباء
في يوم ما, مع اقتراب إثيوبيا من بناء سدودها, وماذا أعددنا ليوم كهذا.
طوحت رأسي مزيحا المخاوف والأوهام, لكن الحقائق كانت صادمة, نحن قوم ننشد
الضعف ونبتغي الهزيمة.. مثلا, منذ عقود ننصب مكلمة عن البرنامج النووي
المصري, لحل مشكلة الطاقة وتحلية المياه, في نوع من اللت والعجن الموسمي,
وروحي يا ضبعة, تعالي يا ضبعة, ولا شيء يحدث في الواقع. المدهش فعلا أن
الخبراء اختلفت آراؤهم بشدة, بين مؤيد ومعارض: بين من يري الخيار النووي
حلا سحريا لكثير من مشكلاتنا, ومن يستغرب الحديث عن خيار كهذا في دولة فشلت
في إدارة برنامج للتخلص من قمامة شوارعها, وبين من يعتبره بابا للعدوان
الأجنبي, مثلما حدث مع العراق.. ووسط هذا التضارب الفادح لا أجد سواك سيدي
القارئ حكما في الأمر, يحدد بوصلة توجهنا المنشود: نووي ولا مفيش, بعد أن
تقرأ تلك السطور ؟!
في البداية سألت الخبير النووي الدكتور يسري أبوشادي كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقا والأستاذ الزائر بهندسة الإسكندرية, عن رأيه في تحذيرات وزير الكهرباء. فقال بمرارة: إن مصر ستواجه أزمة كبيرة بسبب الزيادة العالية في استهلاك الطاقة, نحو90% من كهرباء مصر تنتج من محطات تعمل بالغاز الطبيعي أو منتجات تكرير البترول( سولار ومازوت) و9% من المياه( كالسد العالي وخزان اسوان) واقل من1% من الرياح والشمس. وفي عام2013 وصل استيراد مصر من منتجات البترول الي50% من الاستهلاك. وتخطي دعم الدولة للطاقة العام الماضي120 مليار جنيه وهو في تصاعد مستمر ولن تتمكن الدولة من دعمه في المستقبل القريب.
شعرت بضيق دفعني لمقاطعته: وما الحل الممكن لتلك المعضلة؟
جعجعة ولا طحين..!
صمت أبوشادي قليلا, ثم أجاب بثبات: استخدام الطاقه المتجدده كطاقة الرياح أو الطاقة الحيوية ثم الطاقة الشمسية هو قطعا مطلوب, لكنها لا تقدم بمفردها حلا لازمة الطاقة في مصر. الحل الحتمي في الطاقة النووية بإنتاجها الضخم( حوالي1500 ميجاوات للمفاعل الواحد, السد العالي ينتج نحو2000 ميجاوات) وطاقتها المستمرة( تعمل لفتره سنتين دون توقف) وعمرها الافتراضي الطويل( يصل إلي60 عاما) ورخص سعر الكهرباء المنتجة منها هي أهم الحلول لأزمة الطاقة في مصر في المرحلة القريبة والمتوسطة.
قاطعته ثانية: لكننا نسمع جعجعة ولا نري طحينا, سنين طويلة منذ نهاية السبعينيات والحديث عن إقامة مفاعلات نووية لا يتوقف, ولا نجني سوي العدم والخيبة, في حين دولة كإيران بدأت بعدنا ووصلت لما وصلت إليه, فلماذا؟!
قال الخبير النووي: أتفهم نبرة الغضب في سؤالك, وأشاركك ضيقك, فقد تأخرنا عن دول كثيرة سبقتنا, حتي في المنطقة العربية: الإمارات ستبني4 مفاعلات نووية, والسعودية17 والاردن2 وتركيا4 وإيران لديها مفاعل وستبني10 ولا تنس إسرائيل, وخلال سنوات سيتغير الشرق الأوسط, هناك31 دولة في العالم تملك مفاعلات نووية, وفي مصر علينا أن نفعل ما يلزم للحاق بالركب, برغم إدراكنا حجم المخاطر, لأن التحديات أكبر والضرورات أهم!.
هدر لا يليق
البكاء علي اللبن المسكوب عادة عربية متأصلة, لكن الاستسلام لم يعد يجدي, والرجوع للماضي هدر لا يليق بدولة مثل مصر ترجو تجاوز عثراتها الكثيرة, إلا من زاوية واحدة الخسارة الصافية والكلفة الباهظة التي يسددها هذا البلد, لماض لا يريد أن يفسح طريقا للمستقبل ويكاد يخنقه, علي الأقل هذا ما استشعرته وأنا أستفهم من الخبير الاستراتيجي اللواء حمدي بخيت عن تعثرنا النووي ونتيجته, إذ ربطه بسببين أساسيين هما: مبارك والإخوان. كانت إدارة حسني مبارك عاجزة ومضغوطة أمام الخارج وإدارتها السياسية أضعف من أن تتخذ قرارا بتطوير برنامج نووي سلمي, لأنه من وجهة نظرها سيعطي إسرائيل ذريعة لتطوير النظام العسكري القائم, وكأن إسرائيل بترسانتها النووية تنتظر مثل هذه الخطوة, أما أيام الإخوان, فإن محمد مرسي لم يكن حاكما وطنيا وأتباعه لا يهمهم سوي مصلحة الجماعة, وتراخوا مع الأهالي الذين استولوا علي موقع الضبعة وتأخرنا في التعاقد مع الشركات العالمية, وسبقنا الآخرون في الوقوف بالصف, أمام منافذ شركات التكنولوجيا النووية... ثم توقف اللواء بخيت عن الكلام برهة, قبل أن يفجر مفاجأة مدوية بقوله: العالم الآن لم يعد متجها إلي الطاقة النووية, المهم هو ما يعرف بـالطاقة الحرة, مثل طاقة المجال الكهرومغناطيسي, الطاقة النووية هي قنبلة موقوتة بنفاياتها الخطيرة وتعقيداتها, لذا علينا أن نتحسب ونوفر بدائل ملائمة.
هنا واجهت الخبير الاستراتيجي بالمعلوم من أوضاع الطاقة في مصر, وضرورة النووي للخروج من أزمتها..أتاني صوته هادرا بالغضب وربما الألم: هل لدينا قدرة علي تسخير البنية التحتية لخدمة الطاقة النووية ونحن لم نقف في الصف بعد. انظر إلي العشوائية الشديدة التي يتعامل بها مجلس الوزراء مع مشكلات الدولة المصرية, يقولون نحن حكومة تصريف أعمال لا تنظر قرارات استراتيجية بعيدة المدي, هذا معيب وخطير جدا, هات لي مشكلة قامت الحكومة بحلها حلا جذريا...
غلبتني الحيرة فلم أتركه يواصل, قلت: لكننا لن نخترع العجلة من جديد هناك دول سبقتنا وحققت إنجازات مشهودة في ظروف صعبة, إيران مثلا, فأجابني اللواء بخيت بصرامة: إسرائيل أو إيران دول ملكت الأدوات والإرادة السياسية التي تصنع المعجزة, أي تتخذ القرار علي المستوي السياسي وتسعي لتنفيذه.
المصير العراقي
عاودت القول: دعنا من الحكومة الحالية وترددها وتلكؤها, ماذا يمكن أن يفعل الرئيس والحكومة المقبلة بخصوص برنامج نووي يلبي طموحات المصريين: هدأ صوته وهو يقول: لا بديل عن تخطيط استراتيجي قومي بغاية وسياسة عليا, يقع في منطقة القدرة التكنولوجية والقدرة الاقتصادية وينشط علي هذا المحور, أي نعد برنامجا علي قدر ثقل مصر..
بمعني؟!
برنامج يخدم مساحة مليون كيلومتر مربع و90 مليون نسمة ويمتد في حوضي البحر المتوسط والأحمر وعلي ضفاف النيل, بكل ما لذلك من تعقيدات جمة.
لكن هل يمكن أن يتعرض البرنامج النووي المصري في حالة تدشينه لهجوم علي غرار مفاعل أوزيراك العراقي من جانب إسرائيل أو غيرها.
علي الفور قال اللواء حمدي بخيت: كل شيء وارد, وهم لن يتركونا نفعل ما نريد..!
إذن هل نستسلم لتلك المخاوف؟
لابد من تدشين سلاح دفاع جوي قوي وقادر, ومواجهة التعقيدات بجدية. هذا واجبنا. لم تزدني إجابات اللواء بخيت إلا قلقا واضطرابا, بعد أن وضع الملح علي الجرح النازف, وقالت لي نفسي- الأمارة بالسوء-: كيف لدولة تحكم أداءها منظومة الفساد والإهمال وتعجز عن حل مشكلة القمامة والقاذورات في شوارعها أن تطمح في إدارة برنامج نووي سيكون الأمر خطرا ماحقا دون شك..لكن الدكتور يسري أبوشادي كان له رأي آخر, عندما واجهته بالمعضلات والمخاوف التي قد تنجم عن إقامة مفاعلات نووية في مصر, وأولها الكوارث والتلوث مثلما حدث في تشرنوبيل بأوكرانيا وفوكوشيما باليابان, فأجابني بثقة: لقد أجرينا حسابات كثيرة, وأعددنا برامج لتلافي هذه المخاطر, وقد اخترنا أن نقيم مفاعلات الماء المضغوط وهي أفضل نوع في الأمان النووي, ولم تجر فيها أي حادثة وتمثل70% من المفاعلات في العالم.
والنفايات؟
هي الوقود المستهلك ليس له حل كامل, إنما حلول مؤقتة علي المدي القريب والمتوسط بوضعه في حاويات ويدفن بشروط معينة حتي يهبط مستوي الإشعاع.
خطأ جسيم
والتمويل في ظل الميزانية الخاوية والديون المتلتلة؟
جميع محطات الكهرباء لا تمول من الحكومة المصرية, والشركة التي تبني المحطة تأتي ومعها قرض لإنشائها وتحصله بالعائد الذي سيأتي من تشغيلها التمويل ليس مشكلة, ولو دخلنا في مشاركة لبناء محطاتنا فهذا سيمنح المشروع ثقة كبيرة, وسنوفر بترولا وغازا بأموال طائلة, بينما الوقود النووي غير مكلف نحو50 مليون دولار للوقود للمحطة النووية كل عامين تقريبا, بناء المحطة هو المكلف نحو4-5 مليارات دولار, بينما المحطة التقليدية تتكلف مليارا واحدا لكنها تستهلك وقودا بشكل مكثف وباهظ, وفي المجمل الكهرباء المتولدة من الطاقة النووية أرخص وأنظف بكثير من المتولدة عن المازوت أوالغاز أو الفحم, كما يمكن بجوار توليد القوي الكهربية تحلية مياه البحر في وقت تنشئ فيه إثيوبيا سدودها المعرقلة لنهر النيل.
في بلد يعاني قصورا مريعا في الإدارة ينعكس علي كل أحواله كيف تضمن إدارة رشيدة لبرنامج نووي خطير ومعقد ويحتاج كفاءات ومنظومات أداء نادرة؟!!
بثبات واضح, رفض د.أبوشادي ما اعتبره جلدا للذات أو الاستسلام للإحباط والفشل, وأوضح أن لدينا حاليا مفاعلات نووية للأبحاث ولم يحدث بها كوارث وندير السد العالي وشركات طيران, لذلك اعتبر التقليل من قدرة الإدارة المصرية خطأ جسيما, ونبه إلي أننا سنعمل بالتعاون مع شركات عالمية لديها خبرات ونحن لدينا كوادر وسندربها, كما أن المحطات النووية لا تعمل( بمزاجها) فهناك تفتيش دولي من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن العالم يشترك معنا في التشغيل ومراقبة الأمان النووي.
أول مفاعل مصري
وما أهم ملامح البرنامج النووي المصري؟
المخطط هو إنشاء4 مفاعلات نووية في الضبعة, وأنا أقترح أماكن أخري بحيث يكون عندنا15 مفاعلا في2030, تنتج ما بين25 و30% من استهلاكنا من الكهرباء.
ومتي يبدأ التنفيذ؟
أظن أن المناقصة في هذا الشهر, وأرجو ألا نتعجل, فلابد أن نراعي أمرين أساسيين: الأول- أن أرض الضبعة عادت للقوات المسلحة وقد أصدرت هيئة الأمان النووي رخصة( عدم ممانعة), والمطلوب رخصة( كاملة) لبناء المفاعل. الثاني- أننا صنعنا نموذجا لأول مفاعل نووي مصري, بتصميم وصناعة مصرية, بإشراف مني وبمشاركة10 طلاب من طلبة قسم هندسة نووية بجامعة الإسكندرية, وهذا معناه ضرورة تعديل عقد إنشاء مفاعل الضبعة من نظام( تسليم مفتاح) إلي نظام( مشاركة في التصنيع), ولو بدأنا بهذا في المفاعل الأول والثاني سيكون المفاعل الثالث أو الرابع مصريا100%, وهو ما سيقفز بمصر قفزة نوعية تكنولوجية واقتصادية لتوافر الطاقة الرخيصة مما يؤثر إيجابا علي الاستثمار والتصنيع والتشغيل والتنمية.
لكن دكتور أبوشادي, هل يمكن للقوي العالمية أن( تعديها المرة دي) وتتوقف عن وضع العراقيل في طريق مصر النووي المليء بالأشواك؟
الغرب بصفة خاصة لا يستريح لوجود دولة نووية في مصر, خوفا علي إسرائيل, وستكون هناك ضغوط علي القرار المصري الذي لابد أن يكون( مستقلا) في ذاك الشأن الحيوي والحتمي والضروري, لأنه بعد6 سنوات من الآن ستتوقف المصانع وربما محطات الكهرباء نفسها, فماذا يصبح الحال عندئذ, فدول الخليج التي أمدتنا بشحنات من الوقود لن تواصل هذا المسلك, إذن علينا أن نتدبر خياراتنا ونحسم أمرنا لأننا تأخرنا كثيرا, كما قلت..!
في البداية سألت الخبير النووي الدكتور يسري أبوشادي كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقا والأستاذ الزائر بهندسة الإسكندرية, عن رأيه في تحذيرات وزير الكهرباء. فقال بمرارة: إن مصر ستواجه أزمة كبيرة بسبب الزيادة العالية في استهلاك الطاقة, نحو90% من كهرباء مصر تنتج من محطات تعمل بالغاز الطبيعي أو منتجات تكرير البترول( سولار ومازوت) و9% من المياه( كالسد العالي وخزان اسوان) واقل من1% من الرياح والشمس. وفي عام2013 وصل استيراد مصر من منتجات البترول الي50% من الاستهلاك. وتخطي دعم الدولة للطاقة العام الماضي120 مليار جنيه وهو في تصاعد مستمر ولن تتمكن الدولة من دعمه في المستقبل القريب.
شعرت بضيق دفعني لمقاطعته: وما الحل الممكن لتلك المعضلة؟
جعجعة ولا طحين..!
صمت أبوشادي قليلا, ثم أجاب بثبات: استخدام الطاقه المتجدده كطاقة الرياح أو الطاقة الحيوية ثم الطاقة الشمسية هو قطعا مطلوب, لكنها لا تقدم بمفردها حلا لازمة الطاقة في مصر. الحل الحتمي في الطاقة النووية بإنتاجها الضخم( حوالي1500 ميجاوات للمفاعل الواحد, السد العالي ينتج نحو2000 ميجاوات) وطاقتها المستمرة( تعمل لفتره سنتين دون توقف) وعمرها الافتراضي الطويل( يصل إلي60 عاما) ورخص سعر الكهرباء المنتجة منها هي أهم الحلول لأزمة الطاقة في مصر في المرحلة القريبة والمتوسطة.
قاطعته ثانية: لكننا نسمع جعجعة ولا نري طحينا, سنين طويلة منذ نهاية السبعينيات والحديث عن إقامة مفاعلات نووية لا يتوقف, ولا نجني سوي العدم والخيبة, في حين دولة كإيران بدأت بعدنا ووصلت لما وصلت إليه, فلماذا؟!
قال الخبير النووي: أتفهم نبرة الغضب في سؤالك, وأشاركك ضيقك, فقد تأخرنا عن دول كثيرة سبقتنا, حتي في المنطقة العربية: الإمارات ستبني4 مفاعلات نووية, والسعودية17 والاردن2 وتركيا4 وإيران لديها مفاعل وستبني10 ولا تنس إسرائيل, وخلال سنوات سيتغير الشرق الأوسط, هناك31 دولة في العالم تملك مفاعلات نووية, وفي مصر علينا أن نفعل ما يلزم للحاق بالركب, برغم إدراكنا حجم المخاطر, لأن التحديات أكبر والضرورات أهم!.
هدر لا يليق
البكاء علي اللبن المسكوب عادة عربية متأصلة, لكن الاستسلام لم يعد يجدي, والرجوع للماضي هدر لا يليق بدولة مثل مصر ترجو تجاوز عثراتها الكثيرة, إلا من زاوية واحدة الخسارة الصافية والكلفة الباهظة التي يسددها هذا البلد, لماض لا يريد أن يفسح طريقا للمستقبل ويكاد يخنقه, علي الأقل هذا ما استشعرته وأنا أستفهم من الخبير الاستراتيجي اللواء حمدي بخيت عن تعثرنا النووي ونتيجته, إذ ربطه بسببين أساسيين هما: مبارك والإخوان. كانت إدارة حسني مبارك عاجزة ومضغوطة أمام الخارج وإدارتها السياسية أضعف من أن تتخذ قرارا بتطوير برنامج نووي سلمي, لأنه من وجهة نظرها سيعطي إسرائيل ذريعة لتطوير النظام العسكري القائم, وكأن إسرائيل بترسانتها النووية تنتظر مثل هذه الخطوة, أما أيام الإخوان, فإن محمد مرسي لم يكن حاكما وطنيا وأتباعه لا يهمهم سوي مصلحة الجماعة, وتراخوا مع الأهالي الذين استولوا علي موقع الضبعة وتأخرنا في التعاقد مع الشركات العالمية, وسبقنا الآخرون في الوقوف بالصف, أمام منافذ شركات التكنولوجيا النووية... ثم توقف اللواء بخيت عن الكلام برهة, قبل أن يفجر مفاجأة مدوية بقوله: العالم الآن لم يعد متجها إلي الطاقة النووية, المهم هو ما يعرف بـالطاقة الحرة, مثل طاقة المجال الكهرومغناطيسي, الطاقة النووية هي قنبلة موقوتة بنفاياتها الخطيرة وتعقيداتها, لذا علينا أن نتحسب ونوفر بدائل ملائمة.
هنا واجهت الخبير الاستراتيجي بالمعلوم من أوضاع الطاقة في مصر, وضرورة النووي للخروج من أزمتها..أتاني صوته هادرا بالغضب وربما الألم: هل لدينا قدرة علي تسخير البنية التحتية لخدمة الطاقة النووية ونحن لم نقف في الصف بعد. انظر إلي العشوائية الشديدة التي يتعامل بها مجلس الوزراء مع مشكلات الدولة المصرية, يقولون نحن حكومة تصريف أعمال لا تنظر قرارات استراتيجية بعيدة المدي, هذا معيب وخطير جدا, هات لي مشكلة قامت الحكومة بحلها حلا جذريا...
غلبتني الحيرة فلم أتركه يواصل, قلت: لكننا لن نخترع العجلة من جديد هناك دول سبقتنا وحققت إنجازات مشهودة في ظروف صعبة, إيران مثلا, فأجابني اللواء بخيت بصرامة: إسرائيل أو إيران دول ملكت الأدوات والإرادة السياسية التي تصنع المعجزة, أي تتخذ القرار علي المستوي السياسي وتسعي لتنفيذه.
المصير العراقي
عاودت القول: دعنا من الحكومة الحالية وترددها وتلكؤها, ماذا يمكن أن يفعل الرئيس والحكومة المقبلة بخصوص برنامج نووي يلبي طموحات المصريين: هدأ صوته وهو يقول: لا بديل عن تخطيط استراتيجي قومي بغاية وسياسة عليا, يقع في منطقة القدرة التكنولوجية والقدرة الاقتصادية وينشط علي هذا المحور, أي نعد برنامجا علي قدر ثقل مصر..
بمعني؟!
برنامج يخدم مساحة مليون كيلومتر مربع و90 مليون نسمة ويمتد في حوضي البحر المتوسط والأحمر وعلي ضفاف النيل, بكل ما لذلك من تعقيدات جمة.
لكن هل يمكن أن يتعرض البرنامج النووي المصري في حالة تدشينه لهجوم علي غرار مفاعل أوزيراك العراقي من جانب إسرائيل أو غيرها.
علي الفور قال اللواء حمدي بخيت: كل شيء وارد, وهم لن يتركونا نفعل ما نريد..!
إذن هل نستسلم لتلك المخاوف؟
لابد من تدشين سلاح دفاع جوي قوي وقادر, ومواجهة التعقيدات بجدية. هذا واجبنا. لم تزدني إجابات اللواء بخيت إلا قلقا واضطرابا, بعد أن وضع الملح علي الجرح النازف, وقالت لي نفسي- الأمارة بالسوء-: كيف لدولة تحكم أداءها منظومة الفساد والإهمال وتعجز عن حل مشكلة القمامة والقاذورات في شوارعها أن تطمح في إدارة برنامج نووي سيكون الأمر خطرا ماحقا دون شك..لكن الدكتور يسري أبوشادي كان له رأي آخر, عندما واجهته بالمعضلات والمخاوف التي قد تنجم عن إقامة مفاعلات نووية في مصر, وأولها الكوارث والتلوث مثلما حدث في تشرنوبيل بأوكرانيا وفوكوشيما باليابان, فأجابني بثقة: لقد أجرينا حسابات كثيرة, وأعددنا برامج لتلافي هذه المخاطر, وقد اخترنا أن نقيم مفاعلات الماء المضغوط وهي أفضل نوع في الأمان النووي, ولم تجر فيها أي حادثة وتمثل70% من المفاعلات في العالم.
والنفايات؟
هي الوقود المستهلك ليس له حل كامل, إنما حلول مؤقتة علي المدي القريب والمتوسط بوضعه في حاويات ويدفن بشروط معينة حتي يهبط مستوي الإشعاع.
خطأ جسيم
والتمويل في ظل الميزانية الخاوية والديون المتلتلة؟
جميع محطات الكهرباء لا تمول من الحكومة المصرية, والشركة التي تبني المحطة تأتي ومعها قرض لإنشائها وتحصله بالعائد الذي سيأتي من تشغيلها التمويل ليس مشكلة, ولو دخلنا في مشاركة لبناء محطاتنا فهذا سيمنح المشروع ثقة كبيرة, وسنوفر بترولا وغازا بأموال طائلة, بينما الوقود النووي غير مكلف نحو50 مليون دولار للوقود للمحطة النووية كل عامين تقريبا, بناء المحطة هو المكلف نحو4-5 مليارات دولار, بينما المحطة التقليدية تتكلف مليارا واحدا لكنها تستهلك وقودا بشكل مكثف وباهظ, وفي المجمل الكهرباء المتولدة من الطاقة النووية أرخص وأنظف بكثير من المتولدة عن المازوت أوالغاز أو الفحم, كما يمكن بجوار توليد القوي الكهربية تحلية مياه البحر في وقت تنشئ فيه إثيوبيا سدودها المعرقلة لنهر النيل.
في بلد يعاني قصورا مريعا في الإدارة ينعكس علي كل أحواله كيف تضمن إدارة رشيدة لبرنامج نووي خطير ومعقد ويحتاج كفاءات ومنظومات أداء نادرة؟!!
بثبات واضح, رفض د.أبوشادي ما اعتبره جلدا للذات أو الاستسلام للإحباط والفشل, وأوضح أن لدينا حاليا مفاعلات نووية للأبحاث ولم يحدث بها كوارث وندير السد العالي وشركات طيران, لذلك اعتبر التقليل من قدرة الإدارة المصرية خطأ جسيما, ونبه إلي أننا سنعمل بالتعاون مع شركات عالمية لديها خبرات ونحن لدينا كوادر وسندربها, كما أن المحطات النووية لا تعمل( بمزاجها) فهناك تفتيش دولي من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن العالم يشترك معنا في التشغيل ومراقبة الأمان النووي.
أول مفاعل مصري
وما أهم ملامح البرنامج النووي المصري؟
المخطط هو إنشاء4 مفاعلات نووية في الضبعة, وأنا أقترح أماكن أخري بحيث يكون عندنا15 مفاعلا في2030, تنتج ما بين25 و30% من استهلاكنا من الكهرباء.
ومتي يبدأ التنفيذ؟
أظن أن المناقصة في هذا الشهر, وأرجو ألا نتعجل, فلابد أن نراعي أمرين أساسيين: الأول- أن أرض الضبعة عادت للقوات المسلحة وقد أصدرت هيئة الأمان النووي رخصة( عدم ممانعة), والمطلوب رخصة( كاملة) لبناء المفاعل. الثاني- أننا صنعنا نموذجا لأول مفاعل نووي مصري, بتصميم وصناعة مصرية, بإشراف مني وبمشاركة10 طلاب من طلبة قسم هندسة نووية بجامعة الإسكندرية, وهذا معناه ضرورة تعديل عقد إنشاء مفاعل الضبعة من نظام( تسليم مفتاح) إلي نظام( مشاركة في التصنيع), ولو بدأنا بهذا في المفاعل الأول والثاني سيكون المفاعل الثالث أو الرابع مصريا100%, وهو ما سيقفز بمصر قفزة نوعية تكنولوجية واقتصادية لتوافر الطاقة الرخيصة مما يؤثر إيجابا علي الاستثمار والتصنيع والتشغيل والتنمية.
لكن دكتور أبوشادي, هل يمكن للقوي العالمية أن( تعديها المرة دي) وتتوقف عن وضع العراقيل في طريق مصر النووي المليء بالأشواك؟
الغرب بصفة خاصة لا يستريح لوجود دولة نووية في مصر, خوفا علي إسرائيل, وستكون هناك ضغوط علي القرار المصري الذي لابد أن يكون( مستقلا) في ذاك الشأن الحيوي والحتمي والضروري, لأنه بعد6 سنوات من الآن ستتوقف المصانع وربما محطات الكهرباء نفسها, فماذا يصبح الحال عندئذ, فدول الخليج التي أمدتنا بشحنات من الوقود لن تواصل هذا المسلك, إذن علينا أن نتدبر خياراتنا ونحسم أمرنا لأننا تأخرنا كثيرا, كما قلت..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق